كتاب مفيد المستفيد
الشيخ محمد بن عبدالوهاب
1115 هـ - 1206 هـ
ولنختم ذلك بالحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (مامن نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ، وفي رواية يهتدون بهديه ويستنون بسنته ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ، وانتهى ما نقله والحمدلله رب العالمين ، وقد رأيت للشيخ تقي الدين رسالة كتبها وهو في السجن إلى بعض إخوانه لمّا أرسلوا إليه يشيرون عليه بالرفق بخصومه ليتخلص من السجن ، أحببت أن أنقل أولها لعظم منفعته قال رحمه الله تعالى : الحمدلله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له ونشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد فقد وصلت الورقة التي فيها رسالة الشيخين الناسكين القدوتين أيدهما الله وسائر الإخوان بروح منه وكتب في قلوبهم الإيمان وأدخلهم مدخل صدق وأخرجهم مخرج صدق وجعل لهم من لدنه ما ينصر به من السلطان سلطان العلم والحجة بالبيان والبرهان وسلطان القدرة والنصرة بالسنان والأعوان وجعلهم من أوليائه المتقين وحزبه الغالبين لمن ناوأهم من الأقران ومن الأئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والإيقان والله محقق ذلك ومنجز وعده في السر والإعلان ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن لكن بما اقتضته حكمته ومضت به سنته من الابتلاء والامتحان الذي يميز الله به أهل الصدق والإيمان من أهل النفاق والبهتان إذ قد دل كتابه على أنه لابد من الفتنة لكل من ادعى الإيمان والعقوبة لذوي السيئات والطغيان فقال تعالى : (( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنّا الذي من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين أم حسب الذي يعلمون السيئات يفوتون الطالب الغالب وأن مدعي الإيمان يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكاذب وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله فقال تعالى : (( قال الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) وأخبر سبحانه وتعالى بخسران المنقلب على وجهه عند الفتنة الذي يعبد الله فيها على حرف وهو الجانب والطرف الذي لا يستقر من هو عليه بل لا يثبت على الإيمان إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا فقال تعالى : ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ )) وقال تعالى : (( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين )) وقال تعالى : (( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم )) وأخبر سبحانه أنه عند وجود المرتدين فلا بد من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين فقال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه )) وهؤلاء هم الشاكرون لنعمة الإيمان والصابرون على الامتحان كما قال تعالى : (( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم )) إلى قوله (( والله يحب المحسنين )) فإذا أنعم الله على الإنسان بالصبر والشكر كان جميع ما يقضى له من القضاء خيراً له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيراً له والصبّار الشكور هو المؤمن الذين ذكر الله في غير موضع من كتابه ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشر حال وكل واحد من السراء والضراء في حقه يفضي به إلى قبيح المآل فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة التي هي من محن الأنبياء والصديقين ؟
وفيها تثبيت أصول الدين وحفظ الإيمان والقرآن من كيد أهل النفاق والألحاد والبهتان فالحمدلله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يجب ربنا ويرضى وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله والله المسئول أن يثبتكم وسائر المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويتم نعمه عليكم الظاهرة والباطنة وينصر دينه والإغلاظ عليهم في كتابه المبين ، انتهى ما نقلته من كلام أبي العباس رحمه الله في الرسالة المذكورة وهي طويلة ومن جواب له رحمه الله لما سئل عن الحشيشة ما يجب على من يدعي أن أكلها جائز فقال أكل هذه الحشيشة حرام وهي من أخبث الخبائث المحرمة سواء أكل منها كثيراً أو قليلاً لكن الكثير المسكر منها حرام باتفاق المسلمين ومن استحل ذلك فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يُدفن بين المسلمين وحكم المرتد أشرّ من حكم اليهودي والنصراني وسواء اعتقد أن ذلك يحل للعامة أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الذكر والفكر وأنها تحرك العزم الساكن وتنفع في الطريق وقدكان بعض السلف ظن أن الخمر يباح للخاصة متأولاً قوله تعالى : {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين}
[سورة المائدة آية رقم 93] فاتفق عمر وعليّ وغيرهما من علماء الصحابة على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا وإن أصروا على الاستحلال فتلوا انتهى ما نقلته من كلام الشيخ رحمه الله تعالى: فتأمل كلام هذا الذي ينسب إليه عدم تكفير المعين إذا جاهر بسب دين الأنبياء وصار مع أهل الشرك ويزعم أنهم على الحق ويأمر بالمصير معهم وينزر على من لا يسب التوحيد ويدخل مع المشركين لأجل انتسابه إلى الإسلام انظر كيف كفر المعين ولو كان عابداً باستحلال الحشيشة ولو زعم حلها للخاصة الذين تعينهم على الفكرة واستدل بإجماع الصحابة على تكفير قادمة وأصحابه إن لم يتوبوا وكلامه في المعين وكلام الصحابة في المعين فكيف بما نحن فيه مما لا يساوى استحلال الحشيشة جزء من ألف جزء منه والله أعلم .
والحمدلله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
,,,,,,,,,,,,,,,,,,
....................