بسم الله الرحمن الرحيم
من أسرار القرآن :
(377-أ)-( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *)
(التوبة:40) .
بقلم:
الأستاذ الدكتور/ زغلول راغب محمد النجار
هذا النص القرآني الكريم جاء في أواخر الثلث الأول من سورة "التوبة", وهي سورة مدنية, ومن طوال سور القرآن الكريم إذ يبلغ عدد آياتها مائة وتسع وعشرون (129), وهذا ما يجعلها سادس أطول سور الكتاب العزيز.
وسورة "التوبة" من أواخر السور التي أنزلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذ أنزلت في السنة التاسعة من الهجرة , وقد سميت بهذا الاسم (التوبة) لورود هذه الكلمة ومشتقاتها في اثنتي عشرة آية من آياتها . كذلك سميت هذه السورة باسم (براءة) وهي الكلمة التي استهلت بها, وسميت بأسماء أخرى منها: (الفاضحة) و (المخزية) و (المتبرة) أي المهلكة, و (المنكلة), و (سورة العذاب)؛ وذلك لفضحها للمنافقين, ولكونها المهلكة لهم, والمنكلة بهم, والواصفة لعذابهم, كذلك سميت باسم (المحفزة) أو (الحافزة) لتحفيزها المؤمنين على الجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء دينه.
ولم تستفتح سورة "التوبة" بالبسملة, لأن (البسملة) رحمة من الله- تعالى- والسورة تبدأ بإعلان من الله- سبحانه وتعالى- ومن خاتم أنبيائه ورسله- صلى الله عليه وسلم- بالبراءة من المشركين, ورحمة الله لا تلتقي أبدا مع البراءة من ذمة الله وذمة خاتم أنبيائه ورسله.
ويدور المحور الرئيس لسورة "التوبة" حول عدد من التشريعات الإسلامية المتعلقة بالجهاد في سبيل الله, وبمصارف الزكاة, والحاكمة للعلاقة بين المسلمين وبين كل من المشركين والمنافقين في كل من المجتمعات المسلمة وغير المسلمة. كذلك أشارت السورة الكريمة إلى هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذلك الحدث الذي غير وجه التاريخ بالكامل, لأنه كان العامل الرئيسي غنشاء دولة المسلمين بالمدينة والتي منها انطلق الفتح الإسلامي ليشمل نصف الكرة الأرضية في أقل من قرن من الزمان , ويقيم أعظم حضارة في تاريخ الإنسانية لأنها كانت أكمل الحضارات لجمعها بين الدنيا والآخرة في معادلة واحدة, كما كانت أطول الحضارات الإنسانية فيما نعلم.
هذا وقد سبق لنا استعراض سورة "التوبة" وما جاء فيها من التشريعات والعقائد الإسلامية, والإشارات الكونية والإنبائية, ونركز هنا على أوجه الإعجاز التربوي في هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبي بكر الصديق- ( رضي الله عنه وأرضاه ), وفي الآية الكريمة التي اخترناها عنوانا لهذا المقال.
من اسباب نزول هذه الآية الكريمة :
لما رجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من غزوة حنين بالطائف , أمر المسلمين بالنفير العام لغزوة تبوك , ردا على تجمع جيوش الروم في أقصى الجنوب من بلاد الشام على أطراف الجزيرة العربية, وردا على ما كان هرقل ملك الروم قد قرره من دفع رواتب جنده لمدة سنة مقدما تشجيعا لهم على مقاتلة المسلمين, وبعد أن انضم لهم عدد من قبائل العرب في شمال الجزيرة إلى قوات الروم, كان منهم قبائل كل من لخم, وجذام, وعاملة, وغسان, وتقدمت القوات الرومانية وحلفاؤها إلى أرض البلقاء من بلاد الأردن الحالية.
ومن أجل مواجهة هذه القوات الغازية وحلفائها استنفر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الناس إلى قتال الروم. وكان هذا الرسول القائد- صلوات ربي وسلامه عليه- قلما يخرج إلى غزوة دون التورية بغيرها, إلا ما كان من غزوة تبوك, فقد صرح بها لبعد الشقة وشدة الحر, وكان قد اندس في صفوف المسلمين نفر من المنافقين يحاولون تخذيلهم عن القتال, ويخوفونهم من أعداد وعدة الروم وحلفائهم, ومن طول الطريق إليهم في قيظ مهلك, وندرة للماء والغذاء. وأخذ هؤلاء النافقين يرغبون المسلمين في حياة الأمن والدعة والمال والظلال, فنزلت هذه الآية الكريمة مذكرة بخروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من مكة ليلة الهجرة, وقد تآمرت قريش لقتله فأطلعه الله - سبحانه وتعالى- على ما تآمروا به عليه, وأمره بالخروج, فخرج وحيدا إلا من صاحبه الصديق, فنصره الله عليهم, وأخرجه سالما من بين أظهرهم, وقوتهم المادية التي تفوق إمكاناته المادية بكثير, فكانت الهزيمة والذل والصغار من نصيبهم , وكان العز والانتصار لرسول الله وصاحبه, على الرغم من خلو أيديهم من السلاح, وذلك كي لا يهيب أصحاب الحق أهل الباطل أبدا مهما بلغت أعدادهم وإمكاناتهم المادية لأنه لا سلطان في هذا الوجود لغير الله- سبحانه وتعالى- ولذلك فمن توكل عليه حق التوكل وجب له نصر الله , فأولياء الله لا يذلون أبدا لأن الله العزيز قد تعهد لهم بنصره , والله الحكيم يقدر النصر لمن يستحقه.
من هنا كان على المسلمين مدارسة الهجرة النبوية الشريفة في كل عام , واستخلاص الدروس والعبر من أحداثها, ومن أبرزها اليقين في نصر الله لعباده المؤمنين به الموحدين لذاته العلية, والمنزهين له عن جميع صفات خلقه وعن كل وصف لا يليق بجلاله:
من الإعجاز التربوي في هجرة رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-
كانت هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- انتقالاً بالمسلمين من مرحلة الاستضعاف والاضطهاد إلى مرحلة القوة والعزة والمنعة، وإذا كان مسلمو اليوم قد عادوا إلى مرحلة الاستضعاف والاضطهاد والإيذاء في دورة من دورات الزمن، فما أحوجهم إلى إعادة مدارسة حدث الهجرة النبوية، وما فيه من الدروس والعبر،حتى يعاودوا نهضتهم من جديد, ويقوموا بدورهم الرائد في قيادة البشرية كما قادها أسلافهم من قبل.
ففي فجر الجمعة الموافق 27 من شهر صفر سنة 14 من البعثة النبوية الشريفة (الموافق 13 من شهر سبتمبر سنة 622م) هاجر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، انصياعاً لأمر الله – تعالى – بعد ثلاث وخمسين سنة قضاها رسول الله في مكة، ولم يكن سهلاً على نفسه الشريفة مغادرة مهبط رأسه, وأحب البلاد إلى قلبه لولا نزول أمر الله إليه بذلك.
وكان في هذا الحدث العظيم كم هائل من الدروس التربوية التي يجب على كل مسلم ومسلمة استرجاعها في كل احتفال بهذه الذكرى المباركة حتى تتحقق الفوائد المرجوة من هذا الاحتفال. ومن هذه الدروس ما يلي :
أولا: من أبرز الدروس التربوية المستفادة من هجرة رسول الله ضرورة أن يكون المسلم صادق الإيمان بربه, متوكلا عليه حق التوكل، باذلا من جهده وماله وفكره في سبيل نصرة دين الله أقصى ما يملك، ومتحركا من أجل تحقيق ذلك حركة خالصة لوجه الله – تعالى – مضحياً بالنفس والنفيس، واثقاً من نصر الله، ومبشراً بقرب تحققه إن شاء الله.
...........
,,,,,,,,,,,,,,,