بسم الله الرحمن الرحيم
من أسرار القرآن :
(377-ج) - ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *)
(التوبة:40).
بقلم
الأستاذ الدكتور/ زغلول راغب النجار
في المقالين السابقين استعرضنا عددا من الدروس التربوية الهامة المستقاة من هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- من مكة المكرمة إلى يثرب, في ضوء الآية القرآنية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال , والظروف الصعبة التي كان المسلمون يمرون بها وقت تنزل هذه الآية الكريمة .
هذا وقد سبق لنا أن أشرنا إلى أن هذا الحدث الذي غير مجرى التاريخ بانتقال المسلمين من مرحلة الاستضعاف والاضطهاد والإيذاء التي عاشوها في مكة , إلى مرحلة العزة , والقوة, والمنعة والتمكين في الأرض التي بدأوها في المدينة المنورة . وقلنا أن مسلمي اليوم قد عادوا في دورة من دورات الزمن إلى حالة الاستضعاف والاضطهاد والإيذاء على مستوى دولي أكبر وأخطر مما لقيه مسلموا مكة , وإذا أراد مسلموا اليوم الخروج من ذلك الذل الذي غرقوا فيه فعليهم معاودة الاستفادة بالدروس التربوية المستقاة من هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى يتمكنوا من استعادة دورهم الرائد في هداية البشرية الضالة التائهة, والتي أعماها ما حققته من تقدم علمي وتقني مذهل , صاحبه انحسار ديني وأخلاقي وسلوكي مذهل كذلك , فأغرى ذلك الطواغيت بالإفساد في الأرض , والتسلط على الخلق ونشر الظلم في أرجاء الأرض في غطرسة عمياء , وتجبر فاق الحدود مما أغرق الأرض في بحار من الدماء والأشلاء والخراب والدمار, ولا مخرج للبشرية كلها من ذلك إلا بالعودة مرة أخرى إلى الله . ولا يملك مفتاح تلك العودة إلا المسلمين .
وعرضنا في المقالين الماضيين عددا من الدروس المستفادة من الهجرة نلخصها فيما يلي :
أولا : ضرورة الإيمان الصادق بالله-تعالى- وجميل التوكل عليه , والجهاد من أجل إقامة عدل الله في الأرض , والتحرك المخلص بذلك , مع الاستعداد للتضحية من أجل إعلاء كلمة الله, ونصرة دينه, واليقين بأن النصر من الله والاستبشار بقرب تحقق ذلك إن شاء الله تعالى.
ثانيا : الإيمان بحقيقة الأخوة الإنسانية , والتسليم بحتمية صراع أهل الباطل مع أهل الحق على الرغم من ذلك.
ثالثا : ضرورة إحكام التخطيط لكل أمر , وأخذ الحيطة الكاملة من مؤامرات أهل الشر , وقد تكالبوا على المسلمين في هذه الأيام .
رابعا : اليقين في رعاية الله- تعالى- لعباده المؤمنين به والمتوكلين عليه.
خامسا : التأكيد على أن حب مكة المكرمة من الإيمان , وكذلك حب الأوطان.
سادسا : ضرورة حب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحب صحابته الكرام.
سابعا : ضرورة الأخذ بالأسباب في كل أمر من أمور الحياة , مع جميل التوكل على الله (تعالى).
ثامنا : ضرورة اليقين في معية الله- تعالى- لعباده المؤمنين , وحفظه لهم.
تاسعا : ضرورة الوفاء بالعهد تحت مختلف الظروف.
وفي هذا المقال نضيف الدرسين التاليين :
أولا : ضرورة الإيمان بمعجزات الأنبياء وبكرامة الصالحين:
سار الركب النبوي متجهاً إلى المدينة، وتابعهما أحد فرسان قريش وكان اسمه "سراقة بن مالك" وكاد أن يلحق بهما، لولا أن أقدام فرسه غاصت في الرمال فاستجار برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأجاره، ولكن الطمع في المائتي ناقة كان ينسيه ما حدث له فيتابع المطاردة لتغوص قدما فرسه بالأرض بصورة أشد من ذي قبل، وتكرر ذلك عدة مرات، والرسول يجيره حتى آمن سراقة بأنه لا سبيل له في الوصول إلى الرسول وصاحبه، فقرر الرجوع راداً للمتعقبين لرسول الله وصاحبه من كفار قريش، خاصة وأن رسول الله وعده أن يلبسه الله- سبحانه وتعالى- سواري كسرى، وهو يتعجب كيف يمكن أن يكون له ذلك والفرس يحكمون المنطقة بالكامل، ثم تحقق له ذلك بالفعل بعد إسلامه, وكان ذلك إبان إمارة الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).
وفي أثناء رحلة الهجرة كان رسول الله يأمر أبا بكر أن يشغل الناس عنه، فكان إذا سئل: من هذا الذي أنت بين يديه؟ فيرد أبو بكر قائلاً: "هادٍ يهديني السبيل" وقد صدق فيما قال من تورية تعتبر درساً للمسلمين في كل ما يمكن أن يمروا به من الشدائد.
وفي الطريق إلى المدينة نزل ركب رسول الله للتزود بالطعام والشراب على خيام لأم معبد الخزاعية، والمنطقة كانت يومئذ تعيش في شدة من الجدب والعوز، فسألوها أن تبيعهم لحماً أو لبناً أو تمراً، فقالت: والله لو كان عندنا ما أعوزناكم القرى (أي القيام بواجبات الضيافة). وفجأة أبصر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شاة خلفها عن الغنم شدة ما بها من هزال وجهد، فسأل: هل بها من لبن؟ قالت أم معبد: هي أجهد من ذلك، قال: أتأذنين لي في حلابها؟ أجابت: والله ما ضربها من فحل قط، فشأنك إن رأيت فيها حلباً فاحلبه، وأحضرتها له. فمسح رسول الله- صلى الله علي وسلم- بيده الشريفة على ظهر الشاة وعلى ضرعها مسمياً باسم الله، فدرت، ودعا بإناء كبير يروي جماعة من الناس فحلب، ونزل اللبن قوياً في صوته، ثراً في تدفقه حتى امتلأ الإناء، فقدمه لأم معبد أمام دهشة الجميع، فشربت حتى رويت، وشرب جميع من حضر حتى روى، وأخيراً شرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى روى، وكان قدومه على أهل هذه المنطقة بشير يمن وبركة، فنزل الغيث، واخضرت الأرض، ودرت ضروع الحيوانات، فأطلقوا على زائرهم لقب "المبارك".
وفي الطريق إلى يثرب لقي ركب النبي كلاً من أبي بريدة والزبير بن العوام، وكان أبو بريدة زعيم قومه قد خرج في وفد منهم فاق عدده السبعين رجلاً في طلب الرسول وصاحبه، ولكن لما واجهوه أسلموا جميعاً، وكان الزبير في جماعة من التجار المسلمين العائدين من بلاد الشام ففرحوا بلقاء الرسول وصحبه.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,و
...........................ز