التَّأْمِيْنُ الرَّبَانِي
"الأَمْنُ" تلك الكلمة السحرية التي يفتش عنها الجميع؛ صغاراً وكباراً، أفراداً ومجتمعات, على تنوع أساليبهم في التعبير عنها، واختلاف أديانهم وأفكارهم، فهو:الراحة النفسية والطمأنينة وضمان المستقبل والرخاء والسعادة ، فالهدف من المال والزواج والجمال والمنصب والعِلم والعمل .. ليس إلا تحصيل الأَمْنُ والسعادة, بل هو من أهم الأهداف الدنيوية والأخروية.
مع تزايُد الأخطار والأضرار التي تنتج عن التجارب والكشوفات العلمية التي أخذت موقعها بقوة في حياتنا - مع تزايد تلك الأخطار تزايَد الإقبال على طلب "الأمن النفسي" واستُحْدِثت لذلك وسائل كان منها "التأمين" أو "السَّوكرة"، ثم لجأت شركات التأمين إلى إعادة التأمين في شركات عملاقة... واختلفت أشكاله بين تعاوني وتجاري بحسب التركيبات الاجتماعية التي تفرزها الخَلفيات العقائدية.او
يلاحظ المراقبونون - بِغَضّ النظر عن الحُكم الشرعي للتأمين وهل يحقق "الأمْن النفسي" للفرد أم لا؟! - أن النَّزعة المادِّية غَلَبتْ في حياتنا حتى كِدْنا ننسى خالق الكون ومُسَيِّرَه ومنظِّم قوانين المادّة "الله" جَلَّ جلالُه، الذي عَلَّمنا في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أنْ نأخذ بالأسباب المادية ونراعِيَ سننه في الكون، فنُخطط على ضوء المُعطَيات المادّية وندبِّر ونُقوِّم ونُسدِّد - حتى أن من لم يأخذ بالأسباب مُهْمِل آثم - لكن دون أن ننسى أولاً وآخِراً أن الأمورَ كلَّها بيد الله، فنرفع أيدينا إلى السماء ندعوه بالتيسير والنجاح، ونشكره على نعمائه ونصبر على بلائه. وعندها وحدها يمكن أن نحصِّل أعلى درجات "الأمن النفسي", فالله لا يُخلف وَعْدَه, ولا تَنْفَد خزائنُه, فلا خوفَ مِن إفلاس ولا إخلاف. وقد أرشدنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى نماذج متنوعة من "عقود التأمين المجّانية" التي يمكن أن نُجْرِيَها مع الله سبحانه، دون أن نحتاج إلى أن يكفلنا أحد، أو أن يكون لنا أيّ رصيد إلا رصيد الإيمان بالله واليقين بوعده. وإليك نماذجَ من تلك العقود الشاملة والجزئية:
*عقد التأمين العام الشامل على الحياة وغيرها :
قال أَبَانُ بنُ عُثْمانَ: سَمِعْتُ عُثْمانَ بنَ عَفَّانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( مَنْ قال:َ "بِسْمِ الله الذِي لا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلاَءٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَمَنْ قالَها حِينَ يُصْبِحُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلاَءٍ حَتَّى يُمْسِيَ ) . رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. وفي روايته: ( لم يَضرَّه شيءٌ ) . قال: فأَصَابَ أَبَانَ بنَ عُثْمانَ الْفَالِجُ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ الذِي سَمِعَ مِنْهُ الْحَدِيثَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فقَالَ لَهُ: ما لَكَ تَنْظُرُ إِلَيَّ؟! فَوَالَّلهِ ما كَذَبْتُ عَلَى عُثْمانَ ولا كَذَبَ عُثْمانُ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ اليومَ الذي أصابني فيه ما أصابني غضبتُ فَنَسِيتُ أَنْ أَقُولَهَا". وكَانَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُ إحدى بناته فَيَقُولُ: ( قُولِي حِينَ تُصْبِحِينَ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، لا قُوَّةَ إِلاَّ بالله، ما شَاءَ الله كَانَ, وَما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، أَعْلَمُ أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءِ قَدِيرٌ, وَأنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ؛ فإِنَّهُ مَن قالَهُنَّ حِيَنَ يُصْبِحُ حُفِظَ حتَّى يُمْسِي، وَمَن قالَهُنَّ حِينَ يُمْسِي حُفِظَ حتَّى يُصْبِحَ ). رواه أبو داود.
* عقد التأمين الصحي من لَدْغة العَقْرب والأفاعي والحشرات:
عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةِ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللّه ِصلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( إِذَا نَزَل أَحَدُكُمْ مَنْزِلاً فَلْيَقُلْ: "أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ؛ فَإِنه لاَ يَضُرُّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ ) . رواه مسلم. وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فشكا الأوجاعَ التي لَقِيَها مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْه الْبَارِحَةَ. فقَالَ صلى الله عليه وسلم: ( أَمَا لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ: "أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ" لَمْ تَضُرَّكَ ) . رواه مسلم.
* عقد التأمين على تغطية الديون وإزالة الهموم:
عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال: "دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ المَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ، فَقَالَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ! مَا لِي أَرَاكَ جَالِساً فِي المَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاَةِ؟ قالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رسولَ الله! قالَ: أَفَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلاَماً إِذَا أنت قُلْتَهُ أذْهَبَ الله هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟! قال: قُلْتُ: بَلَى يَا رسولَ الله. قال: قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأعوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ والْبُخْلِ وَأعوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ". قالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ الله هَمِّي وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي) . رواه أبو داود, وهو حديث حسن.
* عقد التأمين على الرضى والراحة النفسية والطمأنينة:
قال رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قالَ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى: ( رَضِينَا بالله رَباًّ وَبالإسْلاَمِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً إِلاَّ كَانَ حَقاًّ عَلَى الله أَنْ يُرْضِيَهُ ) . رواه أبو داود, ونحوه عند الترمذي وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
* عقد التأمين من الأعداء (الشيطان وأعوانه):
عن أَبِي عَيَّاشٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ قالَ إِذَا أَصْبَحَ: ( اجن(لاَ إِلهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الْحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" كَانَ لَهُ عَدْلُ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ - أي من الأجر كأنه حَرَّر عبداً لِوجه الله - وَكُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَحُطَّ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ, وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكانَ في حِرْزٍ مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يُمْسِيَ. وَإِنْ قالَهَا إِذَا أَمُسَى كَانَ لَهُ مِثْلُ ذلِك حَتَّى يُصْبِحَ ) . رواه أبو داود، وهو حديث صحيح.
* عقد التأمين على الجنة:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ة؟!!يَا أَبَا سَعِيدٍ! مَنْ رَضِيَ بِاللّه رَبّاً، وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيّاً، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ) . فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللّهِ! فَفَعَلَصلى الله عليه وسلم. رواه مسلم.
وعن شداد بن أوس رضيَ الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سيدُ الاستغفارِ أن يقولَ: "اللهمَّ أنتَ ربِّي لا إِلهَ إلا أنت، خَلَقتَني وأنا عبدُك، وأنا على عهدِكَ ووَعدِكَ ما استطعتُ، أعوذُ بك مِن شرِّ مَا صنعتُ، أَبُوءُ لك بنعمتكَ عليَّ، وأبُوءُ لك بِذَنبي، فاغَفِرْ لي، فإنه لا يَغفرُ الذنوبَ إلا أنت) . قال: ( ومن قالها من النهارِ مُوقِناً بها فماتَ من يومهِ قبل أن يمسي فهو من أهلِ الجَنة، ومن قالها من الليلِ وهو موقِنٌ بها فماتَ قبلَ أن يصبحَ فهو من أهل الجنة ) . رواه البخاري.
* تأمين من الحريق في نار جهنم:
عنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قالَ حِينَ يُصْبِحُ أَوْ يُمْسِي: ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَصْبَحْتُ أُشْهِدُكَ وَأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وَمَلاَئِكَتَكَ وَجَمِيعَ خَلْقِكَ أَنَّكَ أَنْتَ الله, لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ ، أَعْتَقَ الله رُبعه مِنَ النَّارِ، فَمَنْ قالَهَا مَرَّتَينِ أَعْتَقَ الله نِصْفَهُ، وَمَنْ قالَهَا ثَلاَثاً أَعْتَقَ الله ثَلاَثَةَ أَرْبَاعِهِ، فإِنْ قَالَهَا أَرْبَعاً اعْتَقَهُ الله مِنَ النَّارِ ). رواه أبو داود, وهو حديث حسن.
هذه النصوص نماذجُ مِن تشكيل الإسلام لشخصية أتباعه على الثقة بالله والتفاؤل والأمل عَبْر ما يسمى عند التربويين بِـ "الإيحاء الإيجابي"، والاستعانةِ على ترسيخ ذلك بأن يتلفظ المسلم والمسلمة بكلمات مختصرة واضحة رائعة يُسْمِع بها نفسَه، وبتكرارها - وهذا أسلوب نبويّ لتمكين الأهداف التربوية - وهو ليس دعوة إلى الإهمال، بل ضَمانة للنجاح تُساعد على امتلاك المعنويات المرتفعة عند التخطيط للأعمال أو أدائها. فهلا انتفعنا من "عقود التَّأْمِين النبويَّة المجَّانيَّة" لترسيخ عقيدتنا وتحقيق سعادتنا في الدنيا والآخرة؟ ولماذا لا زال بعض المسلمين ينام ويستيقظ على السِّباب والأغاني الماجنة؟
>>>>>>>>>>>>>>>