بسم الله الرحمن الرحيم
من أسرار القرآن
(366) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ...*)
(المائدة :6)
بقلم
الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
هذا النص القرآني الكريم جاء في أوائل سورة "المائدة" وهي سورة مدنية, وآياتها مائة وعشرون (120) بعد البسملة, وهي من طوال سور القرآن الكريم, ومن أواخرها نزولا, فقد أنزلت في السنة السادسة من الهجرة بعد "صلح الحديبية", وقد سميت السورة بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى المائدة التي أنزلها الله -تعالى- من السماء كرامة لعبده ورسوله المسيح عيسى بن مريم ( عليهما السلام ).
ويدور المحور الرئيسي لسورة "المائدة" حول التشريع بأحكام الدولة الإسلامية , وتنظيم مجتمعاتها على أساس من الإيمان بوحدانية الخالق (سبحانه وتعالى) , وعبادته وحده (بغير شريك , ولا شبيه , ولا منازع , ولا صاحبة ولا ولد) , وتنزيهه فوق جميع صفات خلقه , وفوق كل وصف لا يليق بجلاله , ومن هنا كان حقه في التشريع لعباده. وكانت أول بنود هذا التشريع الإسلامي هو عقد الإيمان بالله – تعالى- ربا وبالإسلام دينا , وبسيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولا. وهذا العقد هو القاعدة التي يقوم عليها سائر العقود في حياة المسلم , ومن هنا استهلت هذه السورة الكريمة بمطالبة الذين آمنوا بالوفاء بالعقود. هذا , وقد سبق لنا استعراض سورة "المائدة", وما جاء فيها من التشريعات, وركائز العقيدة, والإشارات العلمية, ونركز هنا على وجه الإعجاز التشريعي في النص الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال .
من فقه الوضوء
يقول ربنا – تبارك وتعالى- في محكم كتابه :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُم وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ...*)(المائدة:6)
والقيام إلى الصلاة هو تهيؤ للوقوف بين يدي الله- سبحانه وتعالى- خالق الخلق ومبدع الوجود , رب هذا الكون ومليكه , موجده وسيده ومصرف أمره, ولا بد لهدا الموقف من طهارة مادية ومعنوية كبيرة, ومن هنا كان تشريع الوضوء, ومن فرائضه غسل الوجه, وغسل اليدين إلى المرافق, ومسح الرأس, وغسل الرجلين إلى الكعبين, ولذلك قال المصطفى- صلى الله عليه وسلم- " لا يقبل الله صلاة أحدكم أذا أحدث حتى يتوضأ " ( روا الشيخيان , وأبو داود , والترمذي ). والوضوء في حق المحدث واجب, وفي حق المتطهر ندب, وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يتوضأ عند كل صلاة, فلما كان عام الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد من أجل التشريع بالأمرين. وعنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال : " من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات " .
وقد استدل عدد من العلماء بقوله- تعالى- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم...*) على وجوب النية في الوضوء. ويستحب للمسلم قبل غسل الوجه أن يذكر اسم الله- تعالى- على وضوئه,
وذلك لقول المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه". كذلك يستحب أن يغسل كفيه ثلاثا قبل البدء في الوضوء خاصة عند القيام من النوم. وحد الوجه عند الفقهاء ما بين منابت الشعر إلى منتهى اللحيين والذقن طولا , ومن الأذن إلى الأذن عرضا , ويستحب للمتوضئ أن يخلل لحيته إذا كانت كثيفة. وقد ثبت عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا توضأ تمضمض واستنشق ثلاثا لقوله : " من توضأ فليستنشق " وفي رواية : " إذا توضأ أحدكم فليجعل في منخريه من الماء ثم لينثر " والانتثار هو المبالغة في الاستنشاق. وفي قوله- تعالى- : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ) معناه مع المرافق, ويستحب للمتوضئ أن يبدأ بالعضد فيغسله مع ذراعيه, لقول المصطفى- صلى الله عليه وسلم- "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء ,فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل " (البخاري , مسلم ) ؛ ولقوله " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " (مسلم).
وفي قوله- تعالى- : (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُم) وفسرت ( الباء) هنا بأنها للإلصاق ( وهو الأظهر ) أو للتبعيض, فذهب بعض الفقهاء إلى تكميل مسح جميع الرأس من مقدمته إلى القفا مقبلا ومدبرا ( مرة واحدة أو ثلاث مرات ).
وفي قوله- تعالى- : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ) فالواجب هو غسل الرجلين إلى الكعبين( والكعبان هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم ), ولذلك قال المصطفى- صلى الله عليه وسلم- : " أسبغوا الوضوء , ويل للأعقاب من النار " , وفي رواية : " ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار " وإسبلغ الوضوء إتمامه (رواه البيهقي والحاكم).
وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن الخليفة الثالث عثمان بن عفان- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- توضأ ثلاثا ثلاثا .
كذلك أخرج الإمام أحمد عن عمرو بن عبسة أنه قال : قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم- " ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر إلا خرت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر, ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء, ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله , ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء, ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله إلا خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء , ثم يقوم فيحمد الله ويثني عليه بالذي هو له أهل , ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " ( أحمد , مسلم ) .
وعن أنس- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال " إن الخصلة الصالحة تكون في الرجل يصلح الله بها عمله كله , وطهور الرجل لصلاته يكفر الله بطهوره ذنوبه وتبقى صلاته له نافلة " (أبو يعلى, البزار, الطبراني)
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا , ويرفع به الدرجات , قالوا بلى يا رسول الله ,قال: " إسباغ الوضوء على المكاره , وكثرة الخطى إلى المساجد, وانتظار الصلاة بعد الصلاة, فذلكم الرباط فذلكم الرباط " ( رواه مالك, مسلم, الترمذي, النسائي).
وعلى ذلك فإن فرائض الوضوء هي : النية , غسل الوجه , غسل اليدين إلى المرفقين , مسح الرأس , غسل الرجلين مع الكعبين , بهذا الترتيب .
ومن سنن الوضوء : التسمية في أوله, السواك, غسل الكفين ثلاثا في أول الوضوء, المضمضة ثلاثا, الاستنشاق والاستنثار ثلاثا, تخليل اللحية, تخليل الأصابع, التيامن, الدلك, الموالاة, مسح الأذنين , إطالة الغرة ( بالزيادة عن المفروض في غسل الوجه ), وإطالة التحجيل ( بغسل ما فوق المرفقين والكعبين), الاقتصاد في الماء, الدعاء أثناءه وبعده, وصلاة ركعتين بعده. ويجب الوضوء للصلاة مطلقا, وللطواف بالبيت الحرام, وللمس المصحف الشريف.
..............
,,,,,,,,,,,,,,
[font=Arial][/font]