حكم الموالاة بين صلاتي الجمع
والصحيح أنه لا تشترط الموالاة بحال لا في وقت الأولى ولا في وقت الثانية فإنه ليس لذلك حد في الشرع ولأن مراعاة ذلك يسقط مقصود الرخصة وهو شبيه بقول من حمل الجمع على الجمع بالفعل وهو أن يسلم من الأولى في آخر وقتها ويحرم بالثانية في أول وقتها كما تأول جمعه على ذلك طائفة من العلماء أصحاب أبي حنيفة وغيرهم ومراعاة هذا من أصعب الأشياء وأشقها فإنه يريد أن يبتدئ فيها إذا بقي من الوقت مقدار أربع ركعات أو ثلاث في المغرب ويريد مع ذلك أن لا يطيلها وإن كان بنية الإطالة تشرع في الوقت الذي يحتمل ذلك وإذا دخل في الصلاة ثم بدا له أن يطيلها أو أن ينتظر أحداً ليحصل الركوع والجماعة لم يشرع ذلك ويجتهد في أن يسلم قبل خروج الوقت ومعلوم أن مراعاة هذا من أصعب الأشياء علماً وعملاً وهو يشغل قلب المصلي غير مقصود الصلاة والجمع شرع رخصة ودفعاً للحرج عن الأمة فكيف لا يشرع إلا مع حرج شديد ومع ما ينقض مقصود الصلاة فعلم أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء يفعل ذلك على الوجه الذي يحصل به التيسير ورفع الحرج له ولأمته ولا يلتزم أنه لا يسلم من الأولى إلا قبل خروج وقتها الخاص وكيف يعلم ذلك المصلي في الصلاة وآخر وقت الظهر وأول وقت العصر إنما يعرف على سبيل التحديد بالظل والمصلي في الصلاة لا يمكنه معرفة الظل ولم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم آلات حسابية يعرف بها الوقت ولا موقّت يعرف ذلك بالآلات الحسابية والمغرب إنما يعرف آخر وقتها بالشفق فيحتاج إلى أن ينظر إلى جهة الغرب هل غرب الشفق الأحمر أو الأبيض والمصلي في الصلاة منهي عن مثل ذلك وإذا كان يصلي في بيت أو فسطاط أو نحو ذلك مما يستره عن الغرب ويتعذر عليه في الصلاة النظر إلى المغرب فلا يمكنه في هذه الحال أن يتحرى السلام في آخر وقت المغرب بل لا بد أن يسلم قبل خروج الوقت بزمن يعلم أنه معه يسلم قبل خروج الوقت.
ثم الثانية لا يمكنه على قولهم أن يشرع فيها حتى يعلم دخول الوقت وذلك يحتاج إلى عمل وكلفة مما لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يراعيه بل ولا أصحابه فهؤلاء لا يمكن الجمع على قولهم في غالب الأوقات لغالب الناس إلا مع تفريق الفعل وأولئك لا يكون الجمع عندهم إلا مع اقتران الفعل وهؤلاء فهموا من الجمع اقتران الفعلين في وقت واحد أو وقتين وأولئك قالوا لا والسنة جاءت بأوسع من هذا وهذا ولم تكلف الناس لا هذا ولا هذا والجمع جائز في الوقت المشترك فتارة يجمع في أول الوقت كما جمع بعرفة وتارة يجمع في وقت الثانية كما جمع بمزدلفة وفي بعض أسفاره وتارة يجمع فيما بينهما في وسط الوقتين وقد يقعان معاً في آخر وقت الأولى وقد يقعان معاً في أول وقت الثانية وقد تقع هذه في هذا وهذه في هذا وكل هذا جائز لأن أصل هذه المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك والتقديم والتوسط بحسب الحاجة والمصلحة ففي عرفة ونحوها يكون التقديم هو السنة وكذلك جمع المطر السنة أن يجمع للمطر في وقت المغرب حتى اختلف مذهب أحمد هل يجوز أن يجمع للمطر في وقت الثانية على وجهين وقيل إن ظاهر كلامه أنه لا يجمع وفيه وجه ثالث أن الأفضل التأخير وهو غلط مخالف للسنة والإجماع القديم وصاحب هذا القول ظن أن التأخير في الجمع أفضل مطلقاً لأن الصلاة يجوز فعلها بعد الوقت عند النوم والنسيان ولا يجوز فعلها قبل الوقت بحال بل لو صلاها قبل الزوال وقبل الفجر أعادها وهذا غلط فإن الجمع بمزدلفة إنما المشروع فيه تأخير المغرب إلى وقت العشاء بالسنة المتواترة واتفاق المسلمين وما علمت أحداً من العلماء سوغ له هناك أن يصلي العشاء في طريقه وإنما اختلفوا في المغرب هل له أن يصليها في طريقه على قولين وأما التأخير فهو كالتقديم بل صاحبه أحق بالذم ومن نام عن صلاة أو نسيها فإن وقتها في حقه حين يستيقظ ويذكرها وأما من صلى قبل الزوال وطلوع الفجر الذي يحصل به فإن كان متعمداً فهذا فعل ما لم يؤمر به وأما إن كان عاجزاً عن معرفة الوقت كالمحبوس الذي لا يمكنه معرفة الوقت فهذا في أجزائه قولان للعلماء وكذلك في صيامه إذا صام حيث لا يمكنه معرفة شهور رمضان كالأسير إذا صام بالتحري ثم تبين له أنه قبل الوقت ففي أجزائه قولان للعلماء وأما من صلى في المصر قبل الوقت غلطاً فهذا لم يفعل ما أمر به وهل تنعقد صلاته نفلاً أو تقع باطلة على وجهين في مذهب أحمد وغيره.
والمقصود أن الله لم يبح لأحد أن يؤخر الصلاة عن وقتها بحال كما لم يبح له أن يفعلها قبل وقتها فليس جمع التأخير بأولى من جمع التقديم بل ذاك بحسب الحاجة والمصلحة فقد يكون هذا أفضل وقد يكون هذا أفضل وهذا مذهب جمهور العلماء وهو ظاهر مذهب أحمد المنصوص عنه وغيره ومن أطلق من أصحابه القول بتفضيل أحدهما مطلقاً فقد أخطأ على مذهبه.
.....
,,,,,,,,,,,,,,,,